فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الزمخشري:

سورة الشرح:
مكية.
وآياتها 8.
نزلت بعد الضحى.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

.[سورة الشرح: الآيات 1- 4]

{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صدرك (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وزرك (2) الَّذِي أنقض ظهرك (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذكرك (4)}
استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار، فأفاد إثبات الشرح وإيجابه، فكأنه قيل: شرحنا لك صدرك، ولذلك عطف عليه: {وضعنا}: اعتبارا للمعنى. ومعنى: {شرحنا صدرك}: فسحناه حتى وسع عموم النبوّة ودعوة الثقلين جميعا. أو حتى احتمل المكاره التي يتعرض لك بها كفار قومك وغيرهم: أو فسحناه بما أودعناه من العلوم والحكم، وأزلنا عنه الضيق والحرج الذي يكون مع العمى والجهل.
وعن الحسن: مليء حكمة وعلما.
وعن أبى جعفر المنصور أنه قرأ: {ألم نشرح لك}، بفتح الحاء. وقالوا: لعله بين الحاء وأشبعها في مخرجها، فظنّ السامع أنه فتحها، والوزر الذي أنقض ظهره- أى حمله على النقيض وهو صوت الانتقاض والانفكاك لثقله- مثل لما كان يثقل على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ويغمه من فرطاته قبل النبوّة. أو من جهله بالأحكام والشرائع. أو من تهالكه على إسلام أولى العناد من قومه وتلهفه. ووضعه عنه: أن غفر له، أو علم الشرائع، أو مهد عذره بعد ما بلغ وبلغ.
وقرأ أنس: {وحللنا}، {وحططنا}.
وقرأ ابن مسعود: {وحللنا عنك وقرك}. ورفع ذكره: أن قرن بذكر اللّه في كلمة الشهادة والأذان والإقامة والتشهد والخطب، وفي غير موضع من القرآن وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وفي تسميته رسول اللّه ونبى اللّه، ومنه ذكره في كتب الأولين، والأخذ على الأنبياء وأممهم أن يؤمنوا به.
فإن قلت: أى فائدة في زيادة لك، والمعنى مستقل بدونه؟
قلت: في زيادة لك ما في طريقة الإبهام والإيضاح، كأنه قيل: {ألم نشرح لك}، ففهم أن ثم مشروحا، ثم قيل: {صدرك}، فأوضح ما علم مبهما، وكذلك لَكَ ذكرك وعَنْكَ وزرك.

.[سورة الشرح: الآيات 5- 6]

{فَإِنَّ مَعَ العسر يسرا (5) إِنَّ مَعَ العسر يسرا (6)}.
فإن قلت: كيف تعلق قوله: {فَإِنَّ مَعَ العسر يسرا} بما قبله؟
قلت: كان المشركون يعيرون رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالفقر والضيقة، حتى سبق إلى وهمه أنهم رغبوا عن الإسلام لافتقار أهله واحتقارهم، فذكره ما أنعم به عليه من جلائل النعم ثم قال: {فَإِنَّ مَعَ العسر يسرا} كأنه قال: خوّلناك ما خولناك فلا تيأس من فضل اللّه، {فإن مع العسر} الذي أنتم فيه {يسرا}.
فإن قلت: {إِنَّ مَعَ} للصحبة، فما معنى اصطحاب اليسر والعسر؟
قلت: أراد أن اللّه يصيبهم بيسر بعد العسر الذي كانوا فيه بزمان قريب، فقرّب اليسر المترقب حتى جعله كالمقارن للعسر، زيادة في التسلية وتقوية القلوب.
فإن قلت: ما معنى قول ابن عباس وابن مسعود رضى اللّه عنهما: لن يغلب عسر يسرين وقد روى مرفوعا أنه خرج صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو يضحك ويقول «لن يغلب عسر يسرين»؟
قلت: هذا عمل على الظاهر، وبناء على قوّة الرجاء، وأن موعد اللّه لا يحمل إلا على أو في ما يحتمله اللفظ وأبلغه، والقول في أنه يحتمل أن تكون الجملة الثانية تكريرا للأولى كما كرر قوله: {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} لتقرير معناها في النفوس وتمكينها في القلوب، وكما يكرر المفرد في قولك: جاءني زيد زيد، وأن تكون الأولى عدة بأنّ العسر مردوف بيسر لا محالة، والثانية عدة مستأنفة بأنّ العسر متبوع بيسر، فهما يسران على تقدير الاستئناف، وإنما كان العسر واحدا لأنه لا يخلو، إما أن يكون تعريفه للعهد وهو العسر الذي كانوا فيه، فهو هو، لأنّ حكمه حكم زيد في قولك:
إن مع زيد مالا، إن مع زيد مالا. وإما أن يكون للجنس الذي يعلمه كل أحد فهو هو أيضا.
وأما اليسر فمنكر متناول لبعض الجنس، فإذا كان الكلام الثاني متأنفا غير مكرر فقد تناول بعضا غير البعض الأوّل بغير إشكال.
فإن قلت: فما المراد باليسرين؟
قلت: يجوز أن يراد بهما ما تيسر لهم من الفتوح في أيام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وما تيسر لهم في أيام الخلفاء، وأن يراد يسر الدنيا ويسر الآخرة، كقوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إحدى الْحُسْنَيَيْنِ} وهما حسنى الظفر وحسنى الثواب..
فإن قلت: فما معنى هذا التنكير؟
قلت: التفخيم، كأنه قيل إن مع العسر يسرا عظيما وأىّ يسر، وهو في مصحف ابن مسعود مرة واحدة.
فإن قلت: فإذا ثبت في قراءته غير مكرر، فلم قال: والذي نفسي بيده، لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه، إنه «لن يغلب عسر يسرين»؟
قلت: كأنه قصد باليسرين: ما في قوله: {يسرا} من معنى التفخيم، فتأوله بيسر الدارين، وذلك يسران في الحقيقة.

.[سورة الشرح: الآيات 7- 8]

{فَإِذا فرغت فانصب (7) وَإِلى رَبِّكَ فارغب (8)}.
فإن قلت: فكيف تعلق قوله: {فَإِذا فرغت فانصب} بما قبله؟
قلت: لما عدد عليه نعمه السالفة ووعده الآنفة، بعثه على الشكر والاجتهاد في العبادة والنصب فيها، وأن يواصل بين بعضها وبعض، ويتابع ويحرص على أن لا يخلى وقتا من أوقاته منها. فإذا فرغ من عبادة ذنبها بأخرى.
وعن ابن عباس: {فإذا فرغت} من صلاتك فاجتهد في الدعاء.
وعن الحسن: {فإذا فرغت} من الغزو فاجتهد في العبادة.
وعن مجاهد: {فإذا فرغت} من دنياك {فانصب} في صلاتك.
وعن الشعبي: أنه رأى رجلا يشيل حجرا فقال: ليس بهذا أمر الفارغ، وقعود الرجل فارغا من غير شغل أو اشتغاله بما لا يعنيه في دينه أو دنياه: من سفه الرأى وسخافة العقل واستيلاء الغفلة، ولقد قال عمر رضى اللّه عنه: إنى لأكره أن أرى أحدكم فارغا سهلا لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة.
وقرأ أبو السمال: {فرغت}- بكسر الراء- وليست بفصيحة.
ومن البدع: ما روى عن بعض الرافضة أنه قرأ (فانصب) بكسر الصاد، أى فانصب عليا للإمامة، ولو صح هذا للرافضى لصح الناصبي أن يقرأ هكذا، ويجعله أمرا بالنصب الذي هو بغض علىّ وعداوته {وَإِلى رَبِّكَ فارغب} واجعل رغبتك إليه خصوصا، ولا تسأل إلا فضله متوكلا عليه. وقرئ: فرغب أى: رغب الناس إلى طلب ما عنده.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ ألم نشرح، فكأنما جاءني وأنا مغتم ففرج عنى». اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {أَلمْ نَشْرَحْ لك صدرك}
وهذا تقرير من الله تعالى لرسول صلى الله عليه وسلم عند انشراح صدره لما حمله من نبوّته.
وفي (نشرح) وجهان:
أحدهما: أي أزال همك منك حتى تخلو لما أُمِرت به.
الثاني: أي نفتح لك صدرك ليتسع لما حملته عنه فلا يضيق، ومنه تشريح اللحم لأنه فتحه لتقديده.
وفيما شرح صدره ثلاثة أقاويل:
أحدها: الإسلام، قاله ابن عباس.
الثاني: بأن ملئ حكمة وعلماً، قاله الحسن.
الثالث: بما منّ عليه من الصبر والاحتمال، قاله عطاء.
ويحتمل رابعاً: بحفظ القرآن وحقوق النبوّة.
{ووَضَعْنا عنك وزرك} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: وغفرنا لك ذنبك، قاله مجاهد، وقال قتادة: كان للنبي ذنوب أثقلته فغفرها الله تعالى له.
الثاني: وحططنا عنك ثقلك، قاله السدي. وهي في قراءة ابن مسعود، وحللنا عنك وِقرك.
الثالث: وحفظناك قبل النبوة في الأربعين من الأدناس حتى نزل عليك الوحيُ وأنت مطهر من الأدناس.
ويحتمل رابعاً: أي أسقطنا عنك تكليف ما لم تُطِقْه، لأن الأنبياء وإن حملوا من أثقال النبوة على ما يعجز عنه غيرهم من الأمة فقد أعطوا من فضل القوة ما يستعينون به على ثقل النبوة، فصار ما عجز عنه غيرهم ليس بمطاق.
{الذي أنقض ظهرك} أي أثقل ظهرك، قاله ابن زيد كما ينقض البعير من الحمل الثقيل حتى يصير نِقْضاً.
وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أثقل ظهره بالذنوب حتى غفرها.
الثاني: أثقل ظهره بالرسالة حتى بلّغها.
الثالث: أثقل ظهره بالنعم حتى شكرها.
{ورَفَعْنا لك ذكرك} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: ورفعنا لك ذكرك بالنبوة، قاله يحيى بن سلام.
الثاني: ورفعنا لك ذكرك في الآخرة كما رفعناه في الدنيا.
الثالث: أن تذكر معي إذا ذكرت، روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أتاني جبريل عليه السلام فقال: إن الله تعالى يقول أتدري كيف رفعْت ذكرك؟ فقال: الله أعلم، فقال: إذا ذُكرتُ ذُكِرْتَ» قاله قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب يخطب ولا يتشهد، ولا صاحب صلاة إلا ينادي:
أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
{فإنَّ مَعَ العسر يسرا} فيه وجهان:
أحدهما: إن مع اجتهاد الدنيا خير الآخرة.
الثاني: إن مع الشدة رخاء، ومع الصبر سعة، ومع الشقاوة سعادة، ومع الحزونة سهولة.
ويحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن مع العسر يسرا عند الله ليفعل منهما ما شاء.
الثاني: إن مع العسر في الدنيا يسرا في الآخرة.
الثالث: إن مع العسر لمن بُلي يسرا لمن صبر واحتسب بما يوفق له من القناعة أو بما يعطى من السعة.
قال ابن مسعود: والذي نفسي بيده لو كان العسر في حَجَرٍ لطلبه اليسر حتى يدخل عليه «ولن يغلب عسْرٌ يُسْرَين».
وإنما كان {العسر} في الموضعين واحدًا، واليسر اثنين، لدخول الألف واللام على {العسر} وحذفها من {اليسر}.
وفي تكرار {مع العسر يسرا} وجهان:
أحدهما: ما ذكرنا من إفراد {العسر} وتثنية اليسر، ليكون أقوى للأمل وأبعث على الصبر، قاله ثعلب.
الثاني: للإطناب والمبالغة، كما قالوا في تكرار الجواب فيقال بلى بلى، لا لا، قاله الفراء وقال الشاعر:
هممتُ بِنْفسيَ بَعْضَ الهُموم ** فأَوْلَى لنفْسِيَ أولى لها.

{فإذا فرغت فانصب} فيه أربعة تأويلات:
أحدها: {فإذا فرغت} من الفرائض {فانصب} من قيام الليل، قاله ابن مسعود.
الثاني: {فإذا فرغت} من صلاتك {فانصب} في دعائك، قاله الضحاك.
الثالث: {فإذا فرغت} من جهادك عدوك {فانصب} لعبادة ربك، قاله الحسن وقتادة.
الرابع: {فإذا فرغت} من أمر دنياك {فانصب} في عمل آخرتك، قاله مجاهد.
ويحتمل تأويلاً خامساً: {فإذا فرغت} من إبلاغ الرسالة {فانصب} لجهاد عدّوك.
{وإلى ربِّكَ فارغب} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: فارغب إليه في دعائك قاله ابن مسعود.
الثاني: في معونتك.
الثالث: في إخلاص نيتك، قاله مجاهد.
ويحتمل رابعاً: فارغب إليه في نصرك على أعدائك. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك}
الشرح: الفتح بإذهاب ما يصد عن الإدراك.
والله تعالى فتح صدر نبيه للهدى والمعرفة بإذهاب الشواغل التي تصدر عن إدراك الحق.
ومعنى هذا الإستفهام: التقريرُ، أي: قد فعلنا ذلك {ووضعنا عنك وزرك} أي: حَطَطْنَا عنك إِثْمَكَ الذي سَلَفَ في الجاهلية، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة، والضحاك، والفراء، وابن قتيبة في آخرين.
وقال الزجاج: المعنى: أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
قال ابن قتيبة: وأصل الوِزْر: ما حمله الإنسان على ظهره، فَشُبِّه بالحمل فجعل مكانه.
ومعنى {أنقض ظهرك} أثقله حتى سمع نقيضه، أي: صوته.
وهذا مَثَلٌ، يعني: أنه لو كان حملاً يحمل لَسُمِع نقيضُ الظهر منه.
وذهب قوم إلى أن المراد بهذا تخفيف أعباء النبوة التي يُثْقِلُ القيامُ بها الظُّهْرَ، فَسَهَّلَ الله له ذلك حتى تيَسَّر عليه الأمر.
وممن ذهب إلى هذا عبد العزيز بن يحيى.
قوله تعالى: {ورفعنا لك ذكرك} فيه خمسة أقوال:
أحدها: ما روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبريل عن هذه الآية، فقال: قال الله عز وجل: إذا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ معي.
قال قتادة: فليس خطيب، ولا مُتَشَهِّدٌ، ولا صاحب صلاة إلا يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وهذا قول الجمهور.
والثاني: {رفعنا لك ذكرك} بالنبوة، قاله يحيى بن سلام.
والثالث: {رفعنا لك ذكرك} في الآخرة كما رفعناه في الدنيا، حكاه الماوردي.
والرابع: {رفعنا لك ذكرك} عند الملائكة في السماء.
والخامس: بأخذ الميثاق لك على الأنبياء، وإلزامهم الإيمان بك، والإقرار بفضلك، حكاهما الثعلبي.
قوله تعالى: {فإن مع العسر يسرا} ضم سين {العسر} وسين (اليُسُر) أبو جعفر.
و{العسر} مذكور في الآيتين بلفظ التعريف.
و(اليُسر) مذكور بلفظ التنكير، فدل على أن العسر واحد، واليسر اثنان.
قال ابن مسعود، وابن عباس في هذه الآية: لن يغلب عُسْر يسرين.
قال الفراء: العرب إذا ذَكَرَتْ نَكِرَةً ثم أعادتها بنكرة صارت اثنتين، كقولك: إذا كسبت درهماً فأنفق درهماً، فالثاني غير الأول، وإذا أعادتها معرفة، فهي كقولك: إذا كسبت درهماً فأنفق الدرهم، فالثاني هو الأول.
ونحو هذا قال الزجاج: ذَكَرَ العسر بالألف واللام، ثم ثَنَّى ذِكْرَه، فصار المعنى: إن مع العسر يسرين.
وقال الحسين بن يحيى الجرجاني ويقال له: صاحب النظم: معنى الكلام: لا يحزنك ما يُعَيِّرك به المشركون من الفقر {فإن مع العسر يسرا} عاجلاً في الدنيا، فأنجزه بما وعده، بما فتح عليه، ثم ابتدأ فصلاً آخر فقال: {إن مع العسر يسرا} والدليل على ابتدائه تَعرِّيه من الفاء والواو، وهو وعد لجميع المؤمنين أن مع عسر المؤمنين يسرا في الآخرة، فمعنى قولهم: لن يغلب عسر يسرين: لن يغلب عسر الدنيا اليسر الذي وعده الله المؤمنين في الدنيا، فاليسر الذي وعدهم في الآخرة، إنما يغلب أحدهما، وهو يسر الدنيا.
فأما يسر الآخرة، فدائم لا ينقطع، كقوله صلى الله عليه وسلم: «شهرا عيد لا ينقصان» أي لا يجتمعان في النقص.
وحكي عن العتبي قال: كنت ذات ليلة في البادية بحالة من الغَمِّ، فأُلْقِيَ في رَوعي بيت من الشعر، فقلت:
أَرَى المَوْتَ لِمَنْ أَصْبَ ** حَ مَغْمُوماً لَهُ أَرُوَحْ

فلما جن الليل سمعت هاتفاً يهتف:
أَلاَ يا أَيُّهَا المرءُ الْ ** لَذِي الهمُّ بِه بَرَّحْ

وَقَدْ أَنْشَدَ بَيْتَاً لَمْ ** يَزَلْ في فِكْرِهِ يَسْنَحْ

إذا اشتَدَّ بك العسر ** فَفَكِّر في {أَلَمْ نَشْرَحْ}
فَعُسْرٌ بَيْنَ يُسْرَيْنِ ** إِذا أَبْصَرْتَهُ فَافْرَحْ

فحفظت الأبيات وفرَّج الله غَمِّي.
قوله تعالى: {فإذا فرغت فانصب} أي: فادأبْ في العمل، وهو من النَّصْب، والنَّصب: التعبُ، الدَّؤوب في العمل.
وفي معنى الكلام خمس أقوال.
أحدها: {فإذا فرغت} من الفرائض {فانصب} في قيام الليل، قاله ابن مسعود.
والثاني: {فإذا فرغت} من الصلاة {فانصب} في الدعاء، قاله ابن عباس، والضحاك، ومقاتل.
والثالث: {فإذا فرغت} من أمر دنياك {فانصب} في عمل آخرتك، قاله مجاهد.
والرابع: {فإذا فرغت} من التشهد فادع لدنياك وآخرتك، قاله الشعبي، والزهري.
والخامس: إذا صح بدنك فاجعل صحتك نَصباً في العبادة، ذكره على ابن أبي طلحة {وإلى ربك فارغب} قال الزجاج: اجعل رغبتك إلى الله عز وجل وحده. اهـ.